فصل: 2- نصوص الشفاعة من القرآن والسنة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: نصوص يخالف ظاهرها ما استدل بظاهره الخوارج والمعتزلة:

النصوص السابقة التي استدل بها من يرون التكفير بالمعاصي وتخليد أصحابها في النار، وردت بإزائها نصوص أخرى كثيرة، تدل دلالة واضحة على أن كبائر الذنوب والمعاصي، لا تخرج مرتكبها من ملة الإسلام، ما عدا الشرك بالله:

.1- نصوص من القرآن الكريم:

منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} النساء (48).
فقد دلت الآية على أن كل ذنب غير الشرك، داخل في مشيئة الله، فإن شاء غفره لصاحبه ابتداء وأدخله الجنة دون أن يعذبه عليه وإن لم يتب، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، بخلاف الشرك فإن الله لا يغفره لمن مات عليه.
وجه الدلالة على ذلك من الآية، هو العموم في لَفْظَيْ ما ومن في قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فما دون الشرك شامل لجميع المعاصي، ولمن يشاء شامل لكل مسلم ارتكب معصية دون الشرك ولم يتب منها.
ولما كان الخوارج والمعتزلة لا يفرقون بين الشرك وغيره من المعاصي، ويشترطون في مغفرة الله لمرتكبها التوبة، فقد حاول الزمخشري رحمه الله- عند تفسيره الآية- لَيَّ عنقها وصرفها عن ظاهرها الذي تدعمه النصوص الأخرى الآتي ذكرها، ليوافق تأويلُه مذهبَه المُعْتَزِلِي.
فقال: فإن قلت: قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}؟
قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا، موجهين إلى قوله تعالى: {لمن يشاء} كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب.
وهو كما ترى تأويل متَكَلَّف ينزه عنه كلام الله تعالى، ويأباه فصحاء العرب، فإنه تعالى لو أراد هذا المعنى، وهو عدم التفريق بين الشرك وغيره من المعاصي، وأنه لا يغفرها جميعا إلا بالتوبة، لبين ذلك بعبارة لا تحتاج إلى هذا التكلف في تأويل كلامه.
ولو كان المتكلم من البشر، وأراد هذا المعنى، لما عجز أن يقول: إن الله لا يغفر الشرك وغيره من الكبائر إلا بالتوبة، ولا يحتاج إلى التقييد بالمشيئة، ولكنه التعصب الذي يوقع صاحبه في مثل هذا التعسف العجيب!
ومن النصوص الدالة على عدم التكفير بكبائر الذنوب غير الشرك، قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} الحجرات.
تدل الآيتان على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: وصف الله الطائفتين المقتتلتين أنهما من المؤمنين.
الوجه الثاني: جعل الطائفتين المتقاتلتين أخوين للمؤمنين، وهي أخوة دينية كما هو واضح.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين.
قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو القدوة في قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟
قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: له فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا.
ونسب إلى الإمام مالك رحمه الله، القول بتكفير الخوارج الذين كفروا المسلمين، وبخاصة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، استدلالا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما».
قال الحافظ ابن حجر: وقيل: محمول على الخوارج، لأنهم يكفرون المؤمنين، هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف، لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم.
قلت: ولِما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل.
وقال ابن كثير رحمه الله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فسماهم مؤمنين مع الاقتتال.
وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم.
وهكذا ثبت في صحيح البخاري، من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
فقد أطلق صلى الله عليه وسلم على وصف الإسلام الطائفتين المقتتلتين طائفتين عظيمتين من المسلمين والمكفرون بالكبائر يسلبون هذا الوصف ممن ارتكب كبيرة.
فمن أحق بالاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بهذا الدين، أو غيره ممن أخذ من النصوص ما وافق هواه ونبذ منها ما خالفه؟!
وقال ابن تيمية رحمه الله: فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضها من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا مولاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم، أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر.
وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال، كغيره من الذنوب الكبائر التي دون الشرك. وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة.

.2- نصوص الشفاعة من القرآن والسنة:

أولا: من القرآن الكريم:
الشفاعة ثبتت في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي في الجملة مجمع على القول بها، إلا أن الوعيدية الخوارج والمعتزلة يثبتونها لأهل الصغائر، وينكرون الشفاعة في أهل الكبائر، جريا على مذهبهم المعروف.
وعامة أهل السنة يثبتونها في كبائر الذنوب ما عدا الشرك، وأيدوا مذهبهم بأحاديث الشفاعة التي بينت بيانا شافيا ثبوت الشفاعة في الكبائر.
فقد بين القرآن الكريم أن الشفاعة لا تكون إلا ممن رضي الله عنهم وأذن لهم، من الأنبياء، ومن شاء تعالى من عباده الصالحين، ولا تكون إلا لمن شاء من عباده المؤمنين، ولا تكون لغيرهم من المشركين.
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة (255).
وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء (28).
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} طه (109).
وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ (23).
والآيات غيرها كثيرة، وهي كما ترى دالة على أنه لا يشفع أحد عنده لأحد، إلا إذا رضي تعالى عن الشافع والمشفوع له، وأذن بالشفاعة للشافع.
ومن هنا نعلم أن الشفاعة المنفية في كتاب الله غير الشفاعة المثبتة فيه، فالشفاعة المنفية هي ما كان يدعيها المشركون ممن يعبدونه من غير الله تعالى، والشفاعة المثبتة هي شفاعة الأنبياء ومن شاء من عباده الصالحين في المؤمنين من أهل الكبائر، وقد وضحت ذلك لك السنة أكمل توضيح.
قال ابن حزم رحمه الله، بعد أن ساق بعض الآيات المثبتة للشفاعة، وبعض الآيات النافية لها:
فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فصح يقينا أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل.
وإذ لا شك في ذلك، فالشفاعة التي أبطل عز وجل، هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار، قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} نعوذ بالله منها. الآية من سورة فاطر (36).
فإذ لا شك فيه فقد صح يقينا أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهدا ورضي قوله، فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت.
ثانيا: نصوص في الشفاعة من السنة:
وأحاديث الشفاعة في أهل الكبائر الدالة على خروجهم من النار يوم القيامة ودخولهم الجنة وبقاؤهم فيها، بلغت حد التواتر، وعليها اعتمد سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال ابن تيمية رحمه الله: إنَّ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ; وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بَلْ كُلُّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّة.
وقال في موضع آخر: وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَنْكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا ثَمَّ إلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ يُخْرِجُهُمْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُخْرِجُ آخَرِينَ بِشَفَاعَةِ غَيْرِهِ وَيُخْرِجُ قَوْمًا بِلَا شَفَاعَةٍ.
ومن أحاديث الشفاعة، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه».
وحديثه الآخر قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا».
فقد دل الحديثان على أن كل من «قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه» و«من مات لا يشرك بالله شيئا» ينال شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، واستثناء أهل الكبائر من هذا النص يحتاج إلى دليل، ولا دليل.
بل جاء النص منه صلى الله عليه وسلم دالا على إثبات شفاعته لأهل الكبائر من هذه الأمة، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا قول الله عز وجل: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} فقال صلى الله عليه وسلم: «إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وحديث عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أتدرون ما خيرني به ربي الليلة؟» فقلنا الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة» قلنا: يا رسول الله أدع الله أن يجعلنا من أهلها. قال: «هي لكل مسلم».

.3- دلالة السنة على عدم خروج مرتكبي الكبائر من الإسلام:

وقد دلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة، أن الأصل بقاء المسلم على إسلامه، ولا يخرج من الإسلام بمجرد ارتكاب المعاصي مهما عظمت، ما عدا الشرك.
ومن ذلك حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخفروا الله في ذمته».
ومعنى «تُخفروا» بضم التاء من الرباعي: تَغدُروا وتنقضوا... يقال: خفر بمعنى حَمَى وحفظ، وأخفر بمعنى غدر ونقض.
بَيِّنٌ من الحديث أن الأصل فيمن أظهر الإسلام بقوله أو فعله، الإسلام فهو مسلم ليس لأحد أن يحكم عليه بالكفر المخرج من الملة، إلا بدليل قاطع، كأن يصرح هو بأنه بدل دينه من الإسلام إلى غيره، أو ينكر ركنا من أركان الإيمان، أو ما علم وجوبه من الدين بالضرورة، أو استحل ما علم تحريمه من الدين بالضرورة، وأقيمت عليه الحجة في كل ذلك ثم عاند واستمر على ما صدر منه.
ولهذا قال الطحاوي رحمه الله في رسالته المشهورة القيمة، التي لقيت قبولا من غالب طوائف هذه الأمة:
ونسمى أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ماداموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين.
وقال شارح الرسالة رحمه الله: قال رسول الله من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.
ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام، إلى أن الإسلام والإيمان واحد وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب، ما لم يستحله.
والمراد بقوله أهل قبلتنا من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة، وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول.
ومنها ما رواه عبيد الله بن عدى بن الخيار، أن رجلا من الأنصار حدثه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين.
فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله»؟
قال الأنصاري بلى يا رسول الله ولا شهادة له.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس يشهد أن محمدا رسول الله»؟
قال: بلى يا رسول الله.
قال: «أليس يصلي»؟
قال بلى يا رسول الله، ولا صلاة له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك الذين نهاني الله عنهم».
ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة».
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: «وإن زنى وإن سرق».
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: «وإن زنى وإن سرق».
قلت: وإن زنى وإن سرق؟
قال: «وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر».
وكان أبو ذر إذا حدث بهذا، قال: وإن رغم أنف أبي ذر.
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.
والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد. يعني لا فرق بين الكبائر التي يرتكبها المسلم بين حق الله أو حق عباده، فكلها لا تحول بين المسلم وبين دخوله الجنة بمشيئة الله.
خروج من دخل النار من المسلمين:
وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي رحمه الله أن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ونصوص الوعد.
ومن الأحاديث الدالة على عدم خلود أهل الكبائر في النار وإن لم يتوبوا، حديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير. ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير. ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» قال أبو عبد الله: قال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من إيمان مكان من خير».
فهذا الحديث واضح بأن الله تعالى يخرج من النار من دخلها، وهو يرد على من زعم خلود من دخل النار فيها... وبينت الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن الذين يخرجهم الله من النار يدخلون الجنة.
ومن أصرح الأحاديث في غفران الكبائر التي لم يتب أصحابها منها: حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
فقد جعل صلى الله عليه وسلم المسلمين الذين يبايعونه على ترك كبائر الذنوب، ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: وفى بعهده، وهو موعود بالأجر من ربه.
الصنف الثاني: لم يف بكل ما عاهد عليه، بل ارتكب شيئا منه، وعوقب عليه في الدنيا بحد أو غيره، كأن يبتليه الله ببعض المصائب ويجعلها كفارة له.
الصنف الثالث: أصاب شيئا من المعاصي التي عاهد على تركها، ولم يعاقب عليه في الدنيا، بل ستره الله عليه، وهذا أمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له ابتداء وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه على معاصيه ثم أدخله الجنة، وهذا هو محل الشاهد من الحديث.
ويجب هنا التنبيه على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عدم دخول الشرك في العفو إذا لم يتب متعاطيه، بأدلة أخرى كما سبق وبإجماع الأمة.
الأمر الثاني: أن في الحديث وعدا بالعفو عمن أصاب شيئا من الكبائر وإن لم يتب.
الأمر الثالث: أن الذنوب الموعود بالعفو عنها هي الكبائر، لا الصغائر فقط كما يدعي الخوارج والمعتزلة، بدليل أن ما ذكر في الحديث من الذنوب، كله من أكبر الكبائر، وهي الزنا والسرقة وقتل النفس التي حرم الله.